فلنبداء بالاحاديث
الحديث الأول : إنما الأعمال بالنيات
متن الحديث
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء
مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن
كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
رواه البخاري و مسلم في صحيحهما .
الشرح
لقد نال هذا الحديث النصيب الأوفر من اهتمام علماء الحديث ؛ وذلك لاشتماله
على قواعد عظيمةٍ من قواعد الدين ، حتى إن بعض العلماء جعل مدار الدين على
حديثين : هذا الحديث ، بالإضافة إلى حديث عائشة رضي الله عنها : ( من عمل
عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ؛ ووجه ذلك : أن الحديث السابق ميزان
للأعمال الظاهرة ، وحديث الباب ميزان للأعمال الباطنة .
والنيّة في اللغة : هي القصد والإرادة ، فيتبيّن من ذلك أن النيّة من أعمال
القلوب ، فلا يُشرع النطق بها ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن
يتلفظ بالنية في العبادة ، أما قول الحاج : " لبيك اللهم حجاً " فليس نطقاً
بالنية ، لكنه إشعارٌ بالدخول في النسك ، بمعنى أن التلبية في الحج
بمنـزلة التكبير في الصلاة ، ومما يدل على ذلك أنه لو حج ولم يتلفّظ بذلك
صح حجه عند جمهور أهل العلم .
وللنية فائدتان : أولاً : تمييز العبادات عن بعضها ، وذلك كتمييز الصدقة عن
قضاء الدين ، وصيام النافلة عن صيام الفريضة ، ثانياً : تمييز العبادات عن
العادات ، فمثلاً : قد يغتسل الرجل ويقصد به غسل الجنابة ، فيكون هذا
الغسل عبادةً يُثاب عليها العبد ، أما إذا اغتسل وأراد به التبرد من الحرّ ،
فهنا يكون الغسل عادة ، فلا يُثاب عليه ، ولذلك استنبط العلماء من هذا
الحديث قاعدة مهمة وهي قولهم : " الأمور بمقاصدها " ، وهذه القاعدة تدخل في
جميع أبواب الفقه .
وفي صدر هذا الحديث ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنما الأعمال
بالنيات ) ، أي : أنه ما من عمل إلا وله نية ، فالإنسان المكلف لا يمكنه
أن يعمل عملاً باختياره ، ويكون هذا العمل من غير نيّة ، ومن خلال ما سبق
يمكننا أن نرد على أولئك الذين ابتلاهم الله بالوسواس فيكررون العمل عدة
مرات ويوهمهم الشيطان أنهم لم ينووا شيئا ، فنطمئنهم أنه لا يمكن أن يقع
منهم عمل باختيارهم من غير نيّة ، ما داموا مكلفين غير مجبرين على فعلهم .
ويستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإنما لكل امريء ما نوى ) وجوب
الإخلاص لله تعالى في جميع الأعمال ؛ لأنه أخبر أنه لا يخلُصُ للعبد من
عمله إلا ما نوى ، فإن نوى في عمله اللهَ والدار الآخرة ، كتب الله له ثواب
عمله ، وأجزل له العطاء ، وإن أراد به السمعة والرياء ، فقد حبط عمله ،
وكتب عليه وزره ، كما يقول الله عزوجل في محكم كتابه : { فمن كان يرجو لقاء
ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ( الكهف : 110 ) .
وبذلك يتبين أنه يجب على الإنسان العاقل أن يجعل همّه الآخرةَ في الأمور
كلها ، ويتعهّد قلبه ويحذر من الرياء أو الشرك الأصغر ، يقول النبي صلى
الله عليه وسلم مشيراً إلى ذلك : ( من كانت الدنيا همّه ، فرّق الله عليه
أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له ، ومن
كانت الآخرة نيّته ، جمع الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا
وهي راغمة ) رواه ابن ماجة .
ومن عظيم أمر النيّة أنه قد يبلغ العبد منازل الأبرار ، ويكتب له ثواب
أعمال عظيمة لم يعملها ، وذلك بالنيّة ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال لما رجع من غزوة تبوك : ( إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيراً ،
ولا قطعتم وادياً ، إلا كانوا معكم ، قالوا يا رسول الله : وهم بالمدينة ؟
قال : وهم بالمدينة ، حبسهم العذر ) رواه البخاري .
و لما كان قبول الأعمال مرتبطاً بقضية الإخلاص ، ساق النبي صلى الله عليه
وسلم مثلاً ليوضح الصورة أكثر ، فقال : ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ،
فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ،
فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، وأصل الهجرة : الانتقال من دار الكفر إلى دار
الإسلام ، أو من دار المعصية إلى دار الصلاح ، وهذه الهجرة لا تنقطع أبداً
ما بقيت التوبة ؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا
تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )
رواه الإمام أحمد في مسنده و أبوداود و النسائي في السنن ، وقد يستشكل
البعض ما ورد في الحديث السابق ؛ حيث يظنّ أن هناك تعارضاً بين هذا الحديث
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ) كما في " الصحيحين " ،
والجواب عن ذلك : أن المراد بالهجرة في الحديث الأخير معنىً مخصوص ؛ وهو :
انقطاع الهجرة من مكة ، فقد أصبحت دار الإسلام ، فلا هجرة منها .
على أن إطلاق الهجرة في الشرع يراد به أحد أمور ثلاثة : هجر المكان ، وهجر
العمل ، وهجر العامل ، أما هجر المكان : فهو الانتقال من دار الكفر إلى دار
الإيمان ، وأما هجر العمل : فمعناه أن يهجر المسلم كل أنواع الشرك
والمعاصي ، كما جاء في الحديث النبوي : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه
ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) متفق عليه ، والمقصود من هجر
العامل : هجران أهل البدع والمعاصي ، وذلك مشروط بأن تتحقق المصلحة من
هجرهم ، فيتركوا ما كانوا عليه من الذنوب والمعاصي ، أما إن كان الهجر لا
ينفع ، ولم تتحقق المصلحة المرجوّة منه ، فإنه يكون محرماً .
ومما يُلاحظ في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خصّ المرأة بالذكر
من بين متاع الدنيا في قوله : ( أو امرأة ينكحها ) ، بالرغم من أنها داخلة
في عموم الدنيا ؛ وذلك زيادة في التحذير من فتنة النساء ؛ لأن الافتتان
بهنّ أشد ، مِصداقاً للحديث النبوي : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال
من النساء ) متفق عليه ، وفي قوله : ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، لم يذكر
ما أراده من الدنيا أو المرأة ، وعبّر عنه بالضمير في قوله : ( ما هاجر
إليه ) ، وذلك تحقيراً لما أراده من أمر الدنيا واستهانةً به واستصغاراً
لشأنه ، حيث لم يذكره بلفظه .
ومما يستفاد من هذا الحديث - علاوة على ماتقدم - : أن على الداعية الناجح
أن يضرب الأمثال لبيان وإيضاح الحق الذي يحمله للناس ؛ وذلك لأن النفس
البشرية جبلت على محبة سماع القصص والأمثال ، فالفكرة مع المثل تطرق السمع ،
وتدخل إلى القلب من غير استئذان ، وبالتالي تترك أثرها فيه ، لذلك كثر
استعمالها في الكتاب والسنة ، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول
والعمل ، والحمد لله رب العالمين.
الحديث الثاني : بيان الإسلام والإيمان والإحسان
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد
الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبتيه ، ووضح كفيه على فخذيه ، وقال :
" يا محمد أخبرني عن الإسلام " ، فقال له : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ،
وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) ، قال : " صدقت " ، فعجبنا له يسأله
ويصدقه ، قال : " أخبرني عن الإيمان " قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، قال : " صدقت " ،
قال : " فأخبرني عن الإحسان " ، قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم
تكن تراه فإنه يراك ) ، قال : " فأخبرني عن الساعة " ، قال : ( ما المسؤول
بأعلم من السائل ) ، قال : " فأخبرني عن أماراتها " ، قال : ( أن تلد الأمة
ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ، يتطاولون في البنيان )
ثم انطلق فلبث مليا ، ثم قال : ( يا عمر ، أتدري من السائل ؟ ) ، قلت :
"الله ورسوله أعلم " ، قال : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم .
الشرح
هذا الحديث عظيم القدر ، كبير الشأن ، جامع لأبواب الدين كله ، بأبسط أسلوب
، وأوضح عبارة ، ولا نجد وصفا جامعا لهذا الحديث أفضل من قوله صلى الله
عليه وسلم : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) .
وقد تناول الحديث الذي بين أيدينا حقائق الدين الثلاث : الإسلام والإيمان
والإحسان ، وهذه المراتب الثلاث عظيمة جدا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى علق
عليها السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة ، وبين هذه المراتب ارتباط وثيق ،
فدائرة الإسلام أوسع هذه الدوائر ، تليها دائرة الإيمان فالإحسان ،
وبالتالي فإن كل محسن مؤمن ، وكل مؤمن مسلم ، ومما سبق يتبيّن لك سر العتاب
الرباني على أولئك الأعراب الذين ادّعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، وهو لم
يتمكّن في قلوبهم بعد ، يقول الله في كتابه : { قالت الأعراب آمنا قل لم
تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ( الحجرات : 14 ) ،
فدل هذا على أن الإيمان أخصّ وأضيق دائرةً من الإسلام .
وإذا أردنا التعمّق في فهم المراتب السابقة ، فإننا نجد أن الإسلام : هو
التعبد لله سبحانه وتعالى بما شرع ، والاستسلام له بطاعته ظاهرا وباطنا ،
وهو الدين الذي امتن الله به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ،
وجعله دين البشرية كلها إلى قيام الساعة ، ولا يقبل من أحد سواه ، وللإسلام
أركان ستة كما جاء في الحديث ، أولها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن
محمدا رسول الله ، وفي الجمع بينهما في ركن واحد إشارة لطيفة إلى أن
العبادة لا تتم ولا تُقبل إلا بأمرين : الإخلاص لله تعالى ، ومتابعة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، كما جاء في قوله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه
فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ( الكهف : 110 ) .
والملاحظ هنا أن الحديث فسّر الإسلام هنا بالأعمال الظاهرة ، وذلك لأن
الإسلام والإيمان قد اجتمعا في سياق واحد ، وحينئذ يفسر الإسلام بالأعمال
الظاهرة كما أشرنا ، ويفسر الإيمان بالأعمال الباطنة من الاعتقادات وأعمال
القلوب .
أما الإيمان فيتضمن أمورا ثلاثة : الإقرار بالقلب ، والنطق باللسان ،
والعمل بالجوارح والأركان ، فالإقرار بالقلب معناه أن يصدق بقلبه كل ما ورد
عن الله تعالى ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرع الحكيم ، ويسلّم
به ويذعن له ، ولذلك امتدح الله المؤمنين ووصفهم بقوله : { إنما المؤمنون
الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } ( الحجرات : 15 ) ، ويقابل ذلك
النفاق ، فالمنافقون مسلمون في الظاهر ، يأتون بشعائر الدين مع المسلمين ،
لكنهم يبطنون الكفر والبغض للدين .
والمقصود بالنطق باللسان هو النطق بالشهادتين ، ولا يكفي مجرد الاعتراف
بوجود الله ، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم دون أن يتلفّظ
بالشهادتين ، بدليل أن المشركين كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق
المدبر ، كما قال عزوجل : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك
السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر
فسيقولون الله } ( يونس : 31 ) ، ولكنهم امتنعوا عن قول كلمة التوحيد ،
واستكبروا : { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } (
الصافات : 35 ) ، وها هو أبوطالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقر
بنبوة ابن أخيه ، ويدافع عنه وينصره ، بل كان يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البريّة دينا
لولا الملامة أو حذار مسبّة لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فلم ينفعه ذلك ، ولم يخرجه من النار ؛ لأنه لم يقبل أن يقول كلمة الإيمان
ومفتاح الجنة ، ولهذا كانت هذه الكلمة هي التي تعصم أموال الناس ، وتحقن
دماءهم ، ففي الحديث الصحيح : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا
فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله )
متفق عليه ، وقد أجمع العلماء على أن من لم ينطق الشهادتين بلسانه مع
قدرته ، فإنه لا يُعتبر داخلاً في الإسلام .
أما العمل بمقتضى هذا الإيمان ، فهو قضية من أعظم القضايا التي غفل الناس
عن فهمها ، فالإيمان لا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل ، والشريعة مليئة بالنصوص
القاطعة الدالة على ركنيّة العمل لصحّة الإيمان ، فقد قال تعالى : {
ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما
أولئك بالمؤمنين } ( النور : 47 ) ولا شك أن ترك العمل بدين الله من أعظم
التولي عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وبهذا يتبين لك ضلال من ابتعد عن نور الله ، وترك العمل بشريعته ، فإذا
نصحته بصلاة أو زكاة احتج لك بأن الإيمان في القلب ، ونسي أن العمل يصدق
ذلك أو يكذبه - كما قال الحسن البصري رحمه الله - ، إذ لو كان إيمانه صادقا
لأورث العمل ، وأثمر الفعل ، كما قيل :
والدعاوى مالم يقيموا عليها بينـات أصحابها أدعياء
وإذا كان الإيمان متضمنا لتلك الأمور الثلاثة ، لزم أن يزيد وينقص ، وبيان
ذلك : أن الإقرار بالقلب يتفاوت من شخص لآخر ، ومن حالة إلى أخرى ، فلا شك
أن يقين الصحابة بربهم ليس كغيرهم ، بل الشخص الواحد قد تمرّ عليه لحظات من
قوة اليقين بالله حتى كأنه يرى الجنة والنار ، وقد تتخلله لحظات ضعف وفتور
فيخفّ يقينه ، كما قال حنظلة رضي الله عنه : " نكون عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين ، فإذا خرجنا من
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا
كثيرا " ، إذاً فإقرار القلب متفاوت ، وكذلك الأقوال والأعمال ؛ فإن من
ذكر الله كثيرا ليس كغيره ، ومن اجتهد في العبادة ، وداوم على الطاعة ، ليس
كمن أسرف على نفسه بالمعاصي والسيئات.
وأسباب زيادة الإيمان كثيرة ، منها : معرفة أسماء الله وصفاته ؛ فإذا علم
العبد صفة الله " البصير " ابتعد عن معصية الله تعالى ، لأنه يستشعر مراقبة
الله له ، وإذا قرأ في كتاب الله قوله : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك
من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك
على كل شيء قدير } اطمأن قلبه ، ورضي بقضاء الله وقدره ، ومنها : كثرة ذكر
الله تعالى ؛ لأنه غذاء القلوب ، وقوت النفوس ، مصداقا لقوله تعالى : { ألا
بذكر الله تطمئن القلوب } ( الرعد : 28 ) ، ومن أسباب زيادة الإيمان :
النظر في آيات الله في الكون ، والتأمل في خلقه ، كما قال تعالى : { وفي
الأرض آيات للموقنين ، وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ( الذاريات : 20 - 21 ) ،
ومنها : الاجتهاد في العبادة، والإكثار من الأعمال الصالحة .
ثم تناول الحديث - الذي بين أيدينا - مرتبة الإحسان ، وهي أعلى مراتب الدين
وأشرفها ، فقد اختص الله أهلها بالعناية ، وأيدهم بالنصر ، قال عزوجل : {
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ( النحل : 128 ) ، والمراد
بالإحسان هنا قد بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أن تعبد الله
كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، وهذه درجة عالية ولا شك ، لأنها
تدل على إخلاص صاحبها ، ودوام مراقبته لله عزوجل .
ثم سأل جبريل عليه السلام عن الساعة وعلاماتها ، فبيّن النبي صلى الله عليه
وسلم أنها مما اختص الله بعلمه ، وهي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا
الله ، لكنه بين شيئا من أماراتها ، فقال : ( أن تلد الأمة ربتها ) ، يعني
أن تكون المرأة أمة فتلد بنتا ، وهذه البنت تصبح سيدة تملك الإماء ، وهذا
كناية عن كثرة الرقيق ، وقد حصل هذا في الصدر الأول من العهد الإسلامي ،
أما العلامة الثانية : ( وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ،
يتطاولون في البنيان ) ، ومعناه أن ترى الفقراء الذين ليسوا بأهل للغنى ولا
للتطاول ، قد فتح الله عليهم فيبنون البيوت الفارهة ، والقصور الباهرة .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا علما نافعا ، وعملا صالحا متقبلا ،
والحمد لله رب العالمين .
الحديث الثالث : أركان الإسلام
عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله
إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج
البيت ، وصوم رمضان ) رواه البخاري و مسلم .
الشرح
الإسلام في حقيقته هو اتباع الرسل عليهم السلام فيما بعثهم الله به من
الشرائع في كل زمان ، فهم الطريق لمعرفة مراد الله من عباده ، فكان الإسلام
لقوم موسى أن يتبعوا ما جاء به من التوراة ، وكان الإسلام لقوم عيسى اتباع
ما أنزل عليه من الإنجيل ، وكان الإسلام لقوم إبراهيم اتباع ما جاء به من
البينات والهدى ، حتى جاء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ، فأكمل
الله به الدين ، ولم يرتض لأحد من البشر أن يتعبده بغير دين الإسلام الذي
بَعث به رسوله ، يقول الله عزوجل : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل
منه وهو في الآخرة من الخاسرين } ( آل عمران : 85 ) ، فجميع الخلق بعد محمد
صلى الله عليه وسلم ملزمون باتباع هذا الدين ، الذي ارتضاه الله لعباده
أجمعين .
ومن طبيعة هذا الدين - الذي ألزمنا الله باتباعه - أن يكون دينا عالميا ،
صالحاً لكل زمان ومكان ، شمولياً في منهجه ، متيناً في قواعده ، راسخاً في
مبادئه ؛ ومن هنا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي بين أيدينا
بالبناء القوي ، والصرح العظيم ، ثم بين في الحديث الأركان التي يقوم
عليها صرح الإسلام .
وأول هذه الأركان وأعظمها كلمة التوحيد بطرفيها: " لا إله إلا الله ، محمد
رسول الله " ، فهي المفتاح الذي يدخل به العبد إلى رياض الدين ، ويكون به
مستحقاً لجنات النعيم ، أما الطرف الأول منها " لا إله إلا الله " فمعناه
أن تشهد بلسانك مقرا بجنانك بأنه لا يستحق أحد العبادة إلا الله تبارك
وتعالى ، فلا نعبد إلا الله ، ولا نرجو غيره ، ولا نتوكل إلا عليه ، فإذا
آمن العبد بهذه الكلمة ملتزمًا بما تقتضيه من العمل الصالح، ثبته الله وقت
الموت، وسدد لسانه حتى تكون آخر ما يودع به الدنيا، و ( من كان آخر كلامه
لا إله إلا الله وجبت له الجنة ) .
أما شهادة أن محمداً رسول الله ، فتعني أن تؤمن بأنه مبعوث رحمة للعالمين ،
بشيراً ونذيراً إلى الخلق كافة ، كما يقول الله سبحانه : { قل يا أيها
الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا
هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته
واتبعوه لعلكم تهتدون } ( الأعراف : 58 ) ، ومن مقتضى هذه الشهادة أن تؤمن
بأن شريعته ناسخة لما سبقها من الأديان ؛ ولذلك أقسم النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : ( والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي
ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار )
رواه مسلم ، ومن مقتضاها أن تؤمن وتعتقد أن كل من لم يصدّق بالنبي صلى الله
عليه وسلم ولم يتّبع دينه ، فإنه خاسر في الدنيا والآخرة ، ولا يقبل الله
منه صرفا ولا عدلا ، سواء أكان متبعا لديانة منسوخة أو محرفة أخرى ، أم كان
غير متدين بدين ، فلا نجاة في الآخرة إلا بدين الإسلام ، واتباع خير
الأنام عليه الصلاة والسلام .
ومن الملاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الشهادتين ركنا واحد ؛
وفي ذلك إشارة منه إلى أن العبادة لا تتم إلا بأمرين ، هما : الإخلاص لله :
وهو ما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله ، والمتابعة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وهو مقتضى الشهادة بأنه رسول الله .
الركن الثاني : إقامة الصلاة المفروضة على العبد ، فالصلاة صلة بين العبد
وربه ، ومناجاة لخالقه سبحانه ، وهي الزاد الروحي الذي يطفيء لظى النفوس
المتعطشة إلى نور الله ، فتنير القلب ، وتشرح الصدر .
وللصلاة مكانة عظيمة في ديننا ؛ إذ هي الركن الثاني من أركان الإسلام ،
وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة ، وقد فرضها الله على نبيه صلى الله
عليه وسلم في أعلى مكان وصل إليه بشر ، وفي أشرف الليالي ، ففي ليلة
الإسراء في السماء السابعة ، جاء الأمر الإلهي بوجوبها ، فكانت واجبة على
المسلم في كل حالاته ، في السلم والحرب ، والصحة والمرض ، ولا تسقط عنه
أبداً إلا بزوال العقل .
وكذلك فإنها العلامة الفارقة بين المسلم والكافر ، يدل على ذلك ما جاء في
حديث جابر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن بين
الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) رواه مسلم .
وثالث هذه الأركان : إيتاء الزكاة ، وهي عبادة مالية فرضها الله سبحانه
وتعالى على عباده ، طهرة لنفوسهم من البخل ، ولصحائفهم من الخطايا ، كيف لا
؟ وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : { خذ من أموالهم صدقة
تطهرهم وتزكيهم بها } ( التوبة : 103 ) ، كما أن فيها إحسانا إلى الخلق ،
وتأليفا بين قلوبهم ، وسدا لحاجتهم ، وإعفافا للناس عن ذل السؤال .
وفي المقابل : إذا منع الناس زكاة أموالهم كان ذلك سببا لمحق البركة من
الأرض ، مصداقاً لحديث بريدة رضي الله عنه : ( ما منع قوم الزكاة إلا حبس
الله عنهم القطر ) رواه الحاكم و البيهقي ، وقد توعد الله سبحانه وتعالى
مانعي الزكاة بالعذاب الشديد في الآخرة ، فقال تعالى : { ولا يحسبن الذين
يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا
به يوم القيامة } ( آل عمران : 180 ) ، وقد جاء في صحيح مسلم في شرح قوله
تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم } ( التوبة : 34 ) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا
إذا كان يوم القيامة ، صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم
فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت له ، في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى
النار ) ، فكان عقابه من الله بماله الذي بخل به على العباد .
الركن الرابع : صيام رمضان ، وهو موسم عظيم ، يصقل فيه المسلم إيمانه ،
ويجدد فيه عهده مع الله ، وهو زاد إيماني قوي يشحذ همته ليواصل السير في
درب الطاعة بعد رمضان ، ولصيام رمضان فضائل عدّة ، فقد تكفل الله سبحانه
وتعالى لمن صامه إيمانا واحتسابا بغفران ما مضى من ذنوبه ، ، وحسبُك من
فضله أن أجر صائمه غير محسوب بعدد .
أما خامس هذه الأركان : فهو الحج إلى بيت الله الحرام ، ، وقد فرض في السنة
التاسعة للهجرة ، يقول الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا } ( آل عمران : 97 ) ، وقد فرضه الله تعالى تزكية للنفوس ،
وتربية لها على معاني العبودية والطاعة، فضلاً على أنه فرصة عظيمة لتكفير
الذنوب ، فقد جاء في الحديث : ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، رجع
كيوم ولدته أمه ) رواه البخاري و مسلم .
وعلى هذه الأركان ، قام صرح الإسلام العظيم ، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا
لكل ما فيه رضاه ، وأن يصلح أحوالنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه