أثر منطق القوة في التوجيه النّحويّ: المسألة الزنبوريّة نموذجا
د. ناصر إبراهيم صالح النعيمي
أستاذ مساعد في جامعة البلقاء التطبيقية- رئيس قسم اللغة العربية وآدابها / كلية أصول الدين الجامعية
يعدّ منطق القوة من الموجهات الأساسية المؤثرة القوية في جميع مناحي الحياة: الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية...، وهذا البحث ، يسعى إلى إظهار دور منطق القوة في التوجيه النحويّ من خلال الوقوف على إحداثيات المسألة الزنبورية : إذ يرى الكوفيون بأنه يجوز على رأي شيخهم الكسائي أَنْ يقال:كنت أظن أَنّ العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو إياها"، أما البصريون فكان رأيهم أَنّه لا يجوز أَنْ يقال : فإذا هو إياها ويجب أن يقال : فإذا هو هي .
وخلص البحث إلى أنّ انتصار الكسائي في المسألة الزنبورية كان انتصارا لمنطق القوة الذي تسلح به بحكم علاقته مع الخلفاء آنذاك ، وليس انتصارا لغويا أو نحويا. وأنّ رأي سيبويه هو الأصح.
أثر منطق القوة في التوجيه النّحويّ : المسألة الزنبوريّة نموذجا
من المسائل النحوية التي قام حولها خلاف في تاريخ مدرستي الكوفة والبصرة المسألة الزنبورية . والتي تجدها في كثير من مصادر النحو العربي وبطرق مختلفة في الرواية .
وبعد التدقيق ومعاينة الكتب التي وردت فيها هذه المسألة تبين أنها كتبت بعد مئة وستين سنة من حدوثها ، حيث ذكرها أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، والمتوفى سنة (337) للهجرة في كتابه مجالس العلماء فيقول :
حدثني أبو الحسن قال : حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى وأبو العباس محمد بن يزيد وغيرهما قال أحمد : حدثني سلمة قال : قال الفراء : قدم سيبويه على البرامكة ، فعزم يحيى على الجمع بينه وبين الكسائي ، فجعل لذلك يوماً ، فلما حضر تقدمتُ والأحمر فدخلنا فإذا تمثال في صدر المجلس ، فقعد عليه يحيى ، وقعد إلى جانب التمثال جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم ، وحضر سيبوبه فأقبل عليه الأحمر فسأله عن مسألة أجاب فيها سيبويه ، فقال له : أخطأت . ثم سأله عن ثانية فأجابها فيها ، فقال له : أخطأت . ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها ، فقال له : أخطأت ، فقال لـه سيبوبه : هذا سوء أدب .
قال : فأقبلت عليه فقلت : إنّ في هذا الرجل حِدّة أو عجلة ولكن ما تقول فيمن قال : هؤلاء أبون ، ومررت بأبين ، كيف تقول مثال ذلك من وأيت أو أويت . قال : فقدِّر فأخطأ ، فقلت : أعد النظر فيه . فقدّر فأخطأ . فقلت : أعِدِ النظر ثلاث مرّات ، يجيب ولا يصيب . قال : فلماّ كثر ذلك قال : لست أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره . قال : فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال : تسألني أو أسألك ؟ فقال : لا بل سلني أنت . فأقبل عليه الكسائي فقال له : ما تقول أو كيف تقول : قد كنت أظن أنّ العقرب أشد لسعة من الزنبور ، فإذا هو هي أو فإذا هو إياها ؟
فقال سيبويه : فإذا هو هي . ولا يجوز النصب . فقال له الكسائي : لحنت . ثم سأله عن مسائل من هذا النوع، خرجت فإذا عبدالله القائمُ أو القائمَ ؟ فقال سيبويه في كل ذلك بالرفع دون النصب ، فقال الكسائي : ليس هذا كلام العرب ، العرب ترفع في ذلك كلّه وتنصب .
فدفع سيبويه قوله ، فقال يحيى بن خالد : قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما ؟ فقال الكسائي : هذه العرب ببابك قد جمعتهم من كلِّ أوب ، ووفدت عليك من كل صقع ، وهم فصحاء الناس ، وقد قنع بهم أهل المصرين ، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم ، فيحضرون ويسألون . فقال يحيى وجعفر : لقد أنصفت . وأمر بإحضارهم ، فدخلوا وفيهم أبو فقعس ، وأبو زياد ، وأبو الجراح ، وأبو ثروان ، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فتابعوا الكسائي وقالوا بقوله. قال: فأقبل يحيى على سيبويه فقال له : قد تسمع أيها الرجل . قال : فاستكان سيبويه وأقبل الكسائي على يحيى فقال : أصلح الله الوزير إنه قد وفد عليك من بلده مؤملاً ، فإن رأيت ألاَّ تردّه خائباً . فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج وصيّر وجهه إلى فارس فأقام هناك حتى مات ولم يعد إلى البصرة .
قال أبو العباس: وإنما أدخل العماد في قوله: فإذا هو إياها ؛ لأن "فإذا" مفاجأة ، أي فوجدته ، ورأيته ، ووجدت ، ورأيت تنصب شيئين ، ويكون معه خبر ، فلذلك نصبت العرب (1) .
المضمون النحوي للمسألة الزنبورية.
يرى الكوفيون أنه يجوز على رأي شيخهم الكسائي أَنْ يقال : كنت أظن أَنّ العقرب أشد لسعة من الزنبور ، فإذا هو إياها" .
أما البصريون فكان رأيهم أَنّه لا يجوز أَنْ يقال : فإذا هو إياها ، ويجب أن يقال فإذا هو هي .
والملاحظ أنّ مسألة الخلاف بين الطرفين تكمن في الاسم الواقع بعد إذا الفجائية ، هل يجوز الرفع أم النصب أم كلاهما. هذا ما بينه أبو البركات الأنباري في المسألة التاسعة والتسعين من مسائل كتابه ( الإنصاف في مسائل الخلاف)، فإليكموها (2).
الكوفيون:أخذوا برأي الكسائي الذي أجاز النصب والرفع معاً ، والعرب قد وافقت الكسائي على ذلك . أما البصريون فقد أخذوا برأي سيبويه الذي أجاز الرفع فقط .
والقياس عند الكوفيين - كما ذكره الأنباري - هو أَنّ ( إذا ) ظرف مكان ، والظرف يرفع ما بعده ، وتعمل في الخبر عمل ( وجدت ) ؛ لأنها بمعنى وجدت .
أما القياس عند البصريين فإنه لا يجوز النصب ؛ لأن (هو) مرفوع بالابتداء ، ولا بدّ للمبتدأ من خبر ، فوجب أن يقال : فإذا هو هي . فضمير ( هو) راجع إلى الزنبور ؛ لأنه مذكر ، والضمير ( هي ) راجع إلى العقرب لأنه مؤنث .
وأما الجواب على كلمات الكوفيين – على رأي الأنباري - فإنّ ما رووه عن العرب من قولهم : "فإذا هو إيّاها"، فمن الشاذ الذي لا يعبأ به كالجزم والنصب بـ ( لم )، وما أشبه ذلك من الشواذ التي تخرج عن القياس.
وأمّا قولهم: إنّ (إذا ) إذا كانت للمفاجأة كانت بمنـزلة (وجدت) فباطل؛ لأنها إن كانت كذلك فوجب أن يرفع بها فاعل وينصب بها مفعولان ، كقولهم: "وجدت زيداً قائماً" فترقع الفاعل وتنصب المفعولين ، ومهما أُوّل الاسم بعد (إذا) الفجائية ، فهذا اللفظ ظرف مكان ، وظرف المكان يجب رفع المعرفتين بعده ، فوجب أن يقال: "فإذا هو هي" .
وكذلك فإن قالوا : إنّ (إذا) تعمل عمل الظرف وعمل (وجدت) فترفع الأول لأنها ظرف ، وتنصب الثاني على أنها فعل ينصب مفعولين ، فباطل ؛ لأنها إنْ أعملوها عمل الظرف بقي الاسم المنصوب بلا ناصب ، وإنْ أعملوها عمل الفعل لزمهم وجود فاعل ومفعولين ، وليس لهم إلى إيجاد ذلك سبيل .
وأما قول ثعلب فإنّ ( هو) في قولهم : فإذا هو إياها، عماد. فباطل عند الكوفيين والبصريين ؛ لأن العماد عند الكوفيين الذي يسميه البصريين الفصل – يجوز حذفه من الكلام ولا يختل معنى الكلام بحذفه ، ألا ترى أنك لو حذفت العماد الذي هو الفصل من قولك : "كان زيد هو القائم" فقلت : "كان زيد القائم" لم يختل معنى الكلام بحذفه، وكان الكلام صحيحاً ، وكذلك سائر الأماكن التي يقع فيها العماد الذي هو الفصل يجوز إثباته، ولو حذفته من قولهم: فإذا هو إياها لاختلّ معنى الكلام وبطلت فائدته فيه ؛ لأنه يصير "فإذا إياها" وهذا لا معنى له ولا فائدة منه ؛ فبطل ما ذهبوا إليه (3) .
ومن النحاة الذين بحثوا هذه المسألة طويلاً ، وبينوا أوجهها والرد على كلا الطرفين المتصارعين فيها ، ابن هشام الأنصاري في كتابه (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)، فقال ابن هشام بعد شرحه هذه المسألة:" وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك ، وإن تكلم بعض العرب به" (4) .
اختلاف الروايات.
إنَّ المتتبع لمتن المسألة الزنبورية في مختلف الروايات يلمس اختلافاً واضحاً في المتن ، وذلك لكثرة ترددها على ألسنة النحاة واللغويين والأدباء ، ومحاولة الكثير منهم إثبات المناظرة في كتبهم .
والملاحظ على هؤلاء الأدباء والنحاة ، اللجوء إلى إثبات هذه المناظرة كواقعة تاريخية في تاريخ النحو العربي ، وعلى اعتبار أنها تريد أن ترسي أصلاً من أصول المدرسة الكوفية وهو الأخذ باللغات الشاذة المخالفة لأقيسة المدارس الأخرى كالبصرية من جهة ، وللشائع على أفواه العرب من جهة ثانية (5) .
كما أنّ المتتبع للتاريخ الزمني والتاريخي لمصادر هذه المناظرة ، يرى ورودها عند أقدم النحاة ، أمثال: الزجاجي (ت 337هـ) في كتابه مجالس العلماء ، والزبيدي (ت 379هـ) في كتابه طبقات النحويين واللغويين ، والخطابي (ت 388هـ) في رسالته عن إعجاز القرآن التي نشرت ضمن كتابة ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ، ومحمد بن مسعر التنوفي المعري (ت 442هـ) في كتابه تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين ، وفي عصور لاحقة وردت هذه المناظرة عند أبي البركات الأنباري (ت 577هـ) في الإنصاف في مسائل الخلاف ، وجمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي (ت 624هـ) ، وياقوت الحموت (ت 262هـ) في معجم الأدباء ، وفي قرون لاحقة وردت عند ابن هشام الأنصاري (ت 722هـ) في كتابه مغني اللبيب وأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ) في تذكرة النحاة ، والسيوطي (ت 911هـ) في بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة .
ومن المحدثين الذين تناولوها سعيد الأفغاني في كتابه من تاريخ النحو ، ولكن دون الوقوف على مدى صحة الأحداث التي دارت فيها وإثباتها. وذكرها محمد الطنطاوي في كتابه (نشأة النحو) . وعبد الفتاح الدجني ، في كتابه (ظاهرة الشذوذ في النحو العربي) . وعلي النجدي ناصف في كتابه (سيبويه إمام النحاة) . مع الوقوف على تفصيلات ما جاء فيها من آراء نحوية .
لكن، الملاحظ على كثرة ترددها على ألسنة العلماء، أن الرواية وتناقلها من شخص إلى آخر قد أثر في متنها مما أدخل فيها كثيراً من التصحيف والتحريف. فالصورة الأولى التي وردت عليها المناظرة تشير إلى قدوم سيبويه على البرامكة في حضرة هارون الرشيد ليناظر شيخ الكوفة آنذاك الكسائي ، ولكن قبل حضوره بأيام دارت بينه وبين علي بن المبارك الأحمر ( تلميذ الكسائي) مناظرة أخرى خطأه فيها علي بن المبارك الأحمر ثلاث مرات إلى أن أتى الكسائي . وقال له : ماذا تقول في أنّ العقرب أشد لسعة من الزنبور ، فإذا هو هي أو فإذا هو إياها . فقال سيبويه : فإذا هو هي، ولا يجوز النصب . لكن رأي الكسائي كان على الوجهين ، النصب والرفع ، وخرج بعدها سيبويه باتجاه بلاد فارس إلى أن مات فيها .
وقد دخل هذه الرواية الكثير من التصحيف مبكراً ، حيث وردت عن الزبيدي في كتابه (طبقات النحويين واللغويين) بزيادات كثيرة منها طرح الأمثلة التي تؤيد رأي الكسائي وفي حديث الأعراب الذين كانوا يقفون خلف باب القصر .
وفي (مجالس العلماء) للزجاجي أنّ هؤلاء العلماء سئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه دون ذكر هذه المسائل، وفي (طبقات) الزبيدي أن هناك أكثر من طائفة ، خلف هذا الباب ، فطائفة منهم قالت : فإذا الزنبور هي ، وهذا يدل على دلالة واضحة على أن تأييدهم لرأي سيبويه . وقالت أخرى: إياها بعينها ، وهذا لم يرد في الورود الأول لهذه المناظرة .
أما محقق كتاب (تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين) الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو . فقد قارنها بما ورد في كتاب مجالس العلماء) لأبي القاسم الزجاجي ، وأثبت من خلال ذلك أنه دخلها التحريف في بعض الكلمات: المفردة والجمل والفقرات نحو :
النحو
النوع
خرجت
بلديكما
اجتمعت
فخرجت
بلدكما
جمعتهم
ومن التحريف الذي ورد في هذه المناظرة ما ذكره التنوخي المعري في أنّ الفقرة الآتية لم يجدها أثناء قراءته لمجالس الزجاجي فذكر: قال أبو القاسم : ونقول في ذلك : أما حكاية الفراء عن الأحمر عن المسائل ، وأنه قد أجاب ، فقد شهد بإجابته ولم يلتفت إلى قوله: أخطأت ، وأيضاً فلم يذكر المسائل والجواب ليعلم وجه الخطأ من الصواب . وهذا كلام أبي القاسم ومعناه .
ومنه أيضاً ، قلت : فذلك الجواب عن قول الفراء ، كيف يقول على مذهب من قال : هؤلاء أبون ، ورأيت أبين مثله من وأيت ، وأويت . قد كان يجب أن يكون ذكر تقديره الذي أخطأ فيه ثلاثاً ليعلم خطأ أم صواب، كما ذكر جوابه عن مسألة الكسائي ، وهو الذي لا يجوز عند أحد من البصريين غير ما قال ، فهم أيضاً يروونه صواباً ، وإنما يجيزون النصب في قولهم: "كنت أظن الزنبور أشد لسعة من العقرب ، فإذا هو هي ، فيقولون : "فإذا هو إياها ، يأتون بالكناية عن المنصوب ، وأراهم إنما حملوا ذلك على إجازتهم الحال أن يكون معرفة (6) .
ولم يقف الأمر عند المتأخرين بل في القرن نجد أنه قد دخلها التحريف على يد الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد أو مدينة السلام) . حيث ورد التغيير في بعض الجمل والعبارات وإدخال بعضاً آخر لم يكن من قبل في الروايات التي سبقته .من مثل :
في جمع الأدب على قول الشاعر :
وكان بنو فزارة شرّ عم وكنت لهم بني الأخينا .
كيف نمثل مثال: من أويب ؟
وقوله : فقال يحيى : أنتما عالمان ليس فوقكما أحد يستفتي ، ولا يبلغ هذا العلم مبلغكما أحد ، نشرف على الصواب من قولكما .
كما ونجد التغيير في طبيعة العبارة الآتية مقارنة بما ورد في: مجالس العلماء ، وتاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين ،وثلاث رسائل في إعجاز القرآن . قوله : فما الذي يقطع ما بينكما ؟ فقال الكسائي : العرب الفصحاء المقيمون على باب أمير المؤمنين الذين نرتضي فصاحتهم ، نحضرهم، فنسألهم عما اختلفنا فيه ، فإن عرفوا النصب علمت أن الحق معي ، وإن لم يعرفوه علمت أنّ الحقّ معه . فأشار إلى بعض الغلمان ، فلم يكن إلا ساعة حتى حضر منهم خلق كثير (7) .
وفي هذا اختلاف كثير واضح عما ورد على لسان الكسائي في أقدم روايات المناظرة (
. ولعل رواية الخطيب البغدادي في لغتها من أضعف الروايات القديمة التي وردت عليها هذه المناظرة . حيث يلاحظ الباحث أن البغدادي قد قام بزج هذه الرواية ليطيل الحديث عن علي بن المبارك الأحمر النحوي صاحب علي بن حمزة الكسائي مع ما حدث فيها من تحريف إذا ما قورنت بالمصادر التي وردت فيها هذه المناظرة من قبل .
وفي (تذكرة النحاة) لأبي حيان الأندلسي ، وردت هنا المناظرة بطرق متعددة ، وفيها بعض التحريف ، حيث أشار في طريقة ما إلى وجود الكسائي أصلاً في حضرة هارون الرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكي ، ثم يشير تحت عنوان المسألة الزنبورية إلى استدعاء هارون الرشيد للشيخ الكسائي ليناظر شيخ البصرة سيبويه ، وهذا ما يتفق بعض الشيء مع ما ورد في بعض المراجع والمصادر ، (كإنباه الرواة) للقفطي ، إلى عدم وجوده وأن المناظرة قد قامت بداية بين سيبويه والفراء ، لكنها اعتبرت مناظرة بين طرفي المصرين لأنها مثلت مذهب كل منهما ، مذهب الكسائي والفراء ، ومذهب سيبويه .
ويلاحظ من خلال قراءة المناظرة في مختلف مصادرها أن النحاة الذي ألفوا في تاريخ النحو ، كانوا ينقلون نقلاً مباشراً عمن سبقهم دون توثيق المعلومات وكأنهم يكتفون بالنحوي الذي سبقهم .
إنّ الدارس لهذه المناظرة ولأراء سيبويه والكسائي فيها يغلب منه الحدّة والعنف والمبالغة ، "ولا يرى لشيء منهما داعياً ولا مسوغاً ، فالذين ردووا التهمة جمهرة كبيرة ، وليس من النحويين وحدهم ، ولكن من المؤرخين كذلك ، ولم أر منهم من ينكرها أو يستبعد وقوعها مما يوحي على الأقل بالتوقيف فيها والتسليم بإمكان حدوثها . وهم وإن اختلفوا في تصوير وقائع التهمة ، لا يختلفون في حقيقتها وأن المحكمين اتبعوا الهوى ، ومالوا بالحكم عن وجهه المستبين ، وليس بالمستساغ ولا بالهين أن يرمي كل أولئك جملة واحدة بالجهل والتعصب الأعمى من غير بينة قائمة، ولا حجة قاطعة (9) .
ومن جانب آخر فإنه يروى أن الرشيد كان شديد الرغبة في سماع مناظرات الأدباء ، وكان يعقد المجالس الخاصة بهم ، فقد كان يجلس الكسائي ومحمد بن الحسن على كرسي بحضرته ، ويأمرهما أن لا ينـزعجا لنهضته ، ويطارح الرواة ويناشدهم الأشعار ويذاكرهم به ، فحفظ بعض دواوين الشعراء الأقدمين من جاهليين وإسلاميين ، حتى أنه في نهاية الأمر يتخذ راوياً له ينشده إياها ، وهو محمد الرواية المعروف بالبيدق . حتى نمت سليقته وبرع في تحليله الشعر وحتى نظمه في المناسبات .
ويقول الأصمعي : دخلت على الرشيد وهو محموم ، فقال : أنشد شعراً مليحاً ، قلت ، أرصيناً يريده أمير المؤمنين أم شجناً سهلاً ؟ قال : غزلاً بين الفحل والسهل ، فأنشدته قول ابن الفرخ العجلي :
صحا عن طلاب البيض قبل مشيبه
وعاني له يوماً هوى فأجابه
لمستأنسات بالحديث وكأنّه
وراجعَ غض الطرف فهو خفيض
فؤاد إذا يلقى المراض مريض
تهلّلُ غرٍّ برقهن وميض
فقال لي : أعدها . فما زلت أكررها عليه حتى حفظها (10) .
و من شعر الرشيد ، وقد كانت له جارية تدعى (هيلانا) فماتت ، فرثاها قائلاً :
قاسيتُ أوجاعاً وأحزاناً
فارقت عيشي حين فارقتها
كانت هي الدنيا فلما ثوت
قد كثر الناس ولكنني
والله لا أنساك ما حركت
لما استخصَّ الموت هيلانا
ما أبالي كيفما كانا
في قبرها فارقت دنيانا
لست أرى بعدك إنسانا
ريح بأعلى نجد أغصانا (11).
كما أن فترة حكم هارون الرشيد في الخلافة زادت عن العشرين سنة ، إذ علمنا أنه تولى الحكم سنة (170هـ) ، وتوفى سنة (192هـ) ، وهذا كفيل بأن يكوّن ثروة من الأدب ومجالسة الأدباء والعلماء ، والتزين بزي الأدب وأن يلتقي بعالم مثل سيبويه .
أما بالنسبة للفترة التي عاشها سيبويه من العمر ، فهي أيضاً كفيلة بأن يلتقي بمجموعة من العلماء والأدباء ، ويناظر الكثير منهم ، ويرحل إلى بغداد . ومهما اختلفت المصادر في سنة وفاة سيبويه ومكان وفاته، ولكن أقدم المصادر التي أشارت إلى سنة وفاته ومنها كتاب "تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين" وغيرهما تشير إلى أنه توفي بعد انصرافه من بغداد سنة ثمانين ومائة للهجرة.
أثر منطق القوة في توجيه المسألة.
يعدّ منطق القوة من الموجهات الأساسية المؤثرة القوية في جميع مناحي الحياة: الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية...، لذلك أرى أن منطق القوة لعب دوراً كبيراً في هذه المناظرة الخطيرة ، لأنها حكم بين المصرين ، لا بين رجلين ، أي بين الكوفة والبصرة ، لا بين الكسائي وسيبويه . وأن العرب لم توافق الكسائي إلا لعلمهم أنه ذو سلطة وحظوة عند هارون الرشيد وحاشيته ، من ذلك : يذكر أنّ هارون الرشيد" أشرف على الكسائي وهو لا يراه، فقام الكسائي ليلبس نعله لحاجة يريدها، فابتدرها الأمين و المأمون ، وكان مؤدبهما ، فوضعاها بين يديه فقبّل رؤوسهما وأيديهما ثمّ أقسم عليهما ألاّ يعاودا ، فلما جلس الرشيد مجلسه قال: أيّ الناس أكرم خدما؟ قالوا: أمير المؤمنين أعزه الله . قال: بل الكسائي ،يخدمه الأمين والمأمون، وحدثهم الحديث"(12).
وبالفعل وكما هو مقرر عند الدارسين أنّ الكوفيين استأثروا بالسلطان ، ونالوا الحظوة لدى الحاكمين، لذلك حاولوا أن يسدوا الطريق على غيرهم من الطامحين بنيل عطاء الخلفاء و رضاهم (13). قال سعيد الأفغاني:" فلما قرّب العباسيون الكسائي وخصّهم بتربية أولادهم و بالإغداق عليهم إذ كان أهل الكوفة بالجملة أخلص لهم وأحسن سابقة معهم على عكس أهل البصرة ، اجتهد المقربون في التمسك بدنياهم التي نالوها ، ووقفوا بالمرصاد للبصريين الذين يفوقونهم علما فحالوا بينهم وبين النجاح المادي و المعنوي بكل ما يستطيعون من قوة "(14) وأضاف الأفغاني:" وإذا كان لبصريّ كالأصمعي مثلا حظوة عند خليفة ولم يقدروا على إبعاده ماديا ، اجتهدوا في الغض من علمه"(15)
لذلك روي أنّ العرب الذين استشهد بهم الكسائي قالوا: القول قول الكسائي بأمر من رجال الدولة، ولم ينطقوا بالنصب لأنه لا يطاوع ألسنتهم ، ولذا طلب سيبويه أن يأمَروا بالنطق بها ولكن لم يستمع له ولم يستجب له ، جاء في كتاب (تاريخ آداب العرب): أن جماعة الكسائي قد جاءت بالأعراب الذين كانوا بالباب يومئذ ، وهم أبو فقعس ، وأبو دثار ، وأبو الجراح ، وأبو ثروان ، فوافقوا الكسائي ، ويقال أنهم أَرشوا على ذلك ، أو أنهم علموا منـزلة الكسائي عند الرشيد وبلاط الحكم ، فنظروا إلى المنـزلة ، ويقال: إنهم لم ينطقوا بالنصب وأَنْ سيبويه قال ليحيى : مرهم أنْ ينطقوا بذلك ، فإن ألسنتهم لا تطوع به (16) .
ويشير شوقي ضيف إلى أنّ العرب الذين كانوا بالباب "نفر من عرب الحطمة النازلين ببغداد ، ممن ليسوا في درجة عالية من الفصاحة ، فطلب الكسائي سؤالهم ، ولما سئلوا تابعوه في رأيه ، فأنكر سيبويه ما قاله الرواة ، وإن كنّا نتّهم قولهم ، لأن الحق كان في جانبه لما يقتضيه القياس في هذا الموضع ، ولأنه يطرد الرفع في آي الذكر الحكيم من مثل قوله تعالى:" ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين" (17)، أو قوله تعالى : "فإذا هم خامدون" (18) وكأنها هي وما بعدها مبتدأ وخبر ، أما النصب فيكون على الحالية ، وتوجيهه ضعيف"(19). يقول سعيد الأفغاني:" ولم يختلف البصريون حتى اليوم في أن القول ما قال سيبويه وأن الموضع ليس بموضع نصب"(20).
وقد نقل عن الأصمعي ، أن هؤلاء الأَعراب كانوا ينـزلون بقطر بل - إحدى متنـزهات بغداد ، اشتهرت بالخمر وأسباب اللهو - وأنّ الكسائي لما ناظر سيبويه استشهد بلغتهم ، لذلك عاب أبو زيد سعيد بن أوس على الكسائي فقال:" قدم علينا الكسائي البصرة فلقي عيسى و الخليل وغيرهما ، وأخذ منهم نحوا كثيرا ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمية، فأخذ عنه الفساد و اللحن فأفسد بذلك ما كان أخذه كله(21). وقال أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي في حق الكسائي وأشياعه: (22)
كنا نقيس النحو فيما مضى
فجاء أقوام يقيسونه
إنّ الكسائي وأصحابه
على لسان العرب الأول
على لغي أشياخ قطربل
يرقون في النحو إلى أسفل(23).
وقد "روى العسكري عن أبي زيد أن الكسائي المتوفى سنة (189هـ) بعد أن أخذ العلم الصحيح عن أساتذة البصرة ، خرج إلى بغداد ، فقدم أعراب الحُليمات وهم غير فصحاء ، فأخذ عنهم شيئاً فاسداً ، فخلط هذا بذاك فأفسده ، وهذا الفساد ظاهر المعنى كما ترى" (24). وإليهم أشار القفطي ، الأعراب الذين شهدوا من أعراب الحطمة الذين كان الكسائي يقوم ويأخذ عنهم (25).
وقد ختم ابن الشجري كلامه في مجلس هذه المسألة بأنَّ الكسائي إنما قصد سؤال عما علم أنه لا وجه له في العربية ، واتفق هو والفراء على ذلك ، ليخالفه سيبويه فيكون الرجوع إلى السماع فيقطع المجلس عن النظر والقياس (26).
ويشير أبو البركات الأنباري إلى أن قول هؤلاء الأعراب - الذين استشهد بهم الكسائي - شاذ ولا يؤخذ به ، ويخرج عن القياس ؛ فقال: "على أنه روي أنهم أُعْطُوا على متابعة الكسائي جُعْلاً فلا يكون في قولهم حجة لتطرق التهمة في الموافقة" (27) .
ويعزو أبو زيد فساد علم الكسائي إلى الأعراب الذين تلقى عنهم اللغة ، فقال : "قدم علينا الكسائي البصرة ، فلقى عيس والخليل وغيرهما ، وأخذ منهم نحواً كثيراً ، ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمة ، فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن ، فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله" (28).
وقد تعرض الكوفيون بسبب الأعراب الذين رووا عنهم اللغة إلى هجوم شديد تجاوز جادة الصواب أحياناً وتعبيراً عن العصبية قال أبو الطيب اللغوي : "لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب ، ولولا أنّ الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا ذكره لم يكن شيئاً ، وعلمه مختلط بلا حجج ولا علل ، إلا حكايات الأعراب مطروحة لأنه كان يلقنهم ما يريد وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن وهو قدوتهم وإليه يرجعون" (29) .
وبعد، فيظهر مما تقدم أن جانب منطق القوة كان له أثر واضح في الحياة العقلية والنحوية ، وأن طبيعة الحياة السياسية قد أدت في نهاية الأمر إلى حدوث اختلاف و مناظرات في النحو، يقول أحمد أمين في كتابه " ضحى الإسلام" :" توّج نحو البصرة بسيبويه ، ونشأت بالكوفة مدرسة وعلى رأسها أبو جعفر الرؤاسي ، وتلميذاه : الكسائي و الفراء ... وبدأت من ذلك الحين مدرسة الكوفة تناظر مدرسة البصرة .. وصار لكل مدرسة علم تنحاز إليه كل فرقة، ويظهر أنّ هذه العصبية العلمية بين المدرستين كانت مؤسسة على العصبية السياسية التي ظهرت بين البلدين "(30) نحو المسألة الزنبورية التي حدثت بين الكسائي وسيبويه، والتي أرست في نهاية الأمر مبادئ وقواعد كل من المدرستين أو المذهبين . قال ابن هشام الأنصاري بعد شرحه هذه المسألة : " وليس هذا ما يخفي على سيبويه ولا على أصاغر الطلبة ، ولكن كما قال أبو عثمان المازني: دخلت بغداد فألقيت عليّ مسائل فكنت أجيب فيها على مذهبي ويخطئونني على مذهبهم وهكذا اتفق لسيبويه رحمه الله"(31). فالمسألة ظاهرها نحويّ وباطنها التسيد والقوة ، حيث انتصر الكسائي انتصار القوي المتسلح بسلاح الخليفة في تأييد رأيه، ولأنه يطرد الرفع في آي الذكر الحكيم من مثل قوله تعالى:" ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"، أو قوله تعالى : "فإذا هم خامدون" وكأنها هي وما بعدها مبتدأ وخبر ، أما النصب فيكون على الحالية ، وتوجيهه ضعيف (32) . يقول سعيد الأفغاني:" ولم يختلف البصريون حتى اليوم في أن القول ما قال سيبويه وأن الموضع ليس بموضع نصب"(33)، وهو الأصح.