مع الله
وجدت الشهرة
لاتفيد إلا أسمي, ولكن أسمي ليس مني ولا هو (أنا) فأحببت أن أجد الأُنس
بالحب وأن أنجو به من وحدتي , فلم أجد الحب إلا اسماً لغير شيء ليس له في
الدنيا وجود ,
صرت أكره أن ألتقي بالناس , وأنفر
من المجتمعات , لأني لم أجد في كل ذلك إلا إجتماعاً مُزيفاً , يتعانق
الحبيبان ولو كشف لك عن نفسيهما لرأيت بينهما مثل مابين الأزل والأبد ,
ويتناجى الصديقان ويتبادلان عبارات
الود والإخاء , ولو ظهر لك باطنهما لرأيت كُلاً منهما يلعن الآخر , وترى
الجمعية الوطنية أو الحزب الشعبي أو الوزارات فلا تسمع إلا خُطباً في
التضحية والإخلاص ,
ولا ترى إلا إجتماعاً وإتفاقاً بين
الأعضاء ولو دخلت في قلوبهم لما وجدت إلا الإخلاص للذات وحب النفس ,
وتضحية كل شيء في سبيل منفعة شخصية !
وجدتني غريباً بين الناس ,
فتركت الناس وانصرفت إلى نفسي أكشف
عالمها , وأجوب فيافيها , وأقطع بحارها , وأدرس نواميسها , وجعلت من
أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء , وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء ...
إن مَن حاول معرفة نفسه عُرضت له عَقبات كأداء , ومشقات جسام , فإن صبر عليها بلغ الغاية ,
وما الغاية التي تطمئن معها النفس إلى الوحدة وتأنس بالحياة , وتُدرك اللذة الكُبرى , ما الغاية إلا معرفة الله ؟
وسيظل
الناس تحت أثقال العزلة المُخيفة حتى يتصلوا بالله ويُفكروا دائماً أنه
معهم , وأنه يراهم ويسمعهم , هُنالك تصير الآلام في الله لذة , والجوع في
الله شبعاً , والمرض صحة , والموت هو الحياة السرمدية الخالدة ..
هناك لا يبالي الإنسان ألاّ يكون معه أحد , لأنه يكون مع الله جل في علاه
إن
الله - جلّت ودقتْ حكمته - لم يجعل السعادة في مال ولا نسب ولا مُتعة ,
ولكنه جعلها صلة خفية بين الأشياء وصاحبها , فلا تأخذوا الأمور على
ظواهرها ,
فإن المريض الزّمِن لو حمل من
الألم ما تظنه أنت حامله ما عاش , والغني لو نال من اللذة ما تحسب أنه
نائله ما وسعته الدنيا ولكن العادة تبطل اللذة والألم , وتهوّن السجن على
السجين , والحرب على المحارب , وتجعل الخليفة الذي كان في قصره عشرة آلاف
غادة من جميلات الأرض حُشرن إليه حشراً مثل الذي في بيته امرأة واحدة !
إنما اللذة التي لا تفنى ولا تنقص لذة القلب , لذة المُتأمل , لذة الساجد في هدأة الليل , والمناجي ربه في الأسحار ..
ومن هنا قال بعض من ذاق تلك اللذة : (( لو ذاق الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف )) .. إي والله وبالمدافع والرشاشات !
فهل
جربت لذة السعادة بالسجود في هدأة ثلث الليل حينما ينزل ربنا تبارك وتعالى
إلى سماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله , ويقول (( من يدعوني فأستجيب له , من
يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له )) !
إن المستقبل في الدنيا شيء لا وجود له ..
إنه يوم لن يأتي أبداً , لأنه إن جاء صار (حاضراً) وأصبح صاحبه يُفتش عن (مستقبل) آخر يركض وراءه ..
]قد يكون هذا الذي أقوله (فلسفة) ولكنها فلسفة واقعية , إنها حقائق لا يُفكر فيها أحد منا ..
نحن كالمسافر في الباخرة أو الطائرة
همه الغرفة الجميلة , أو المقعد
المريح , يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام , ويتصفح الجرائد
والمجلات , وينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد ,
ولكن هذا كله لأيام السفر , وأيام
السفر معدودة , أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته الدائمة في
البلد الذي يمضي إليه ؟
أما كان أنفع له لو تحمل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة ووفر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة ..
م شغلته متعة السفر عن التفكير في سبب السفر , وجمال الطريق عن غاية الطريق !؟
إن المستقبل الحق في الآخرة ..
فأين منا من يعمل ويجهتد له؟ بل أين منا من يفكر فيه ويتأمله ..
قد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم :
(( والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم, فلينظر بمَ يرجع )) .
فهل تأملنا هذا الحديث ووعيناهـ ؟!
وهذه مقالة قرأها الناس مني وسمعوها :
إن الجنين في بطن أمه لو أمكن أن يسمعك , وأن يفهم عنك ويُكلمك , وسألته : ما الدنيا ؟!
لقال لك : إن الدنيا هي هذه الأحشاء التي أعيش فيها , وهذه الظلمة التي أتقلب خلالها .
فإن قلت له : هاهُنا دُنيا أخرى
البيت الواحد منها أوسع من دنياك هذه بمائة ألف ضعف , وأن فيها شمساً
وقمراً , وأن فيها براً وبحراً , وشتاءً وصيفاً , هل كان يستطيع أن يفهم
عنك أو يتصور ما تقول ؟
ولو
كانا توأمين في بطن واحد , فوُلد أحدهما قبل صاحبه , وأمكن أن تسأله عنه
فبماذا يجيب سؤالك ؟ ألاّ يقول لك إنه كان فبان وخلا منه المكان , إنه مات
ودُفن تحت في الأعماق !
فكيف رأى الولادة موتاً ..
وكيف لا نرى نحن الحقيقة فنعلم أن الموت ولادة جديدة ..
مقتطفات من بعض مقالات وأدب الشيخ
علي الطنطاوي - رحمة الله
أسأل الله أن ينفع بها كل من قرأها
وبارك الله لي ولكم في صالح الأعمال والأقوال