على الرغم من أن الإمام الشافعي لم يكن قاضيا في مصر قط، فإن أهل مصر يسمونه "قاضي الشريعة" .. ومازال العديد من أصحاب الحاجات الذين لم ينالوا حظا من التعليم يتجهون إلى ضريح الشافعي في الحي المعروف باسمه في القاهرة، فيقدمون الظلامات، ويسألون الله تعالى أن يقضي لهم حاجاتهم، ويرد عنهم الظلم، متوسلين بالإمام الشافعي قاضي الشريعة.
وقد شاع بين أهل مصر أن الإمام الشافعي هو قاضي الشريعة، منذ قدم إلى مصر عام 199 هـ، وهو يخطو إلى الخمسين، رجلا طويلا ممشوق القامة، فارسا، أسمر كأبناء النيل، بشوشا ضاحك الوجه، مهذب اللحية، يصبغ لحيته وشعره بالحناء اتباعا للسنة، عذب الحديث، رخيم الصوت، يشع البريق من عينيه بصفاء الود لمن يراه، على الرغم مما يثقل جفنيه من أثار السهر، وطول التأمل وإعمال الفكر، وكثرة التجول بروحه وجسده بحثا عن حقائق الشريعة!!.. في ثياب خشنة نظيفة، متكئا على عصا غليظة، كأنه حاج ورع أو جواب آفاق..!
وفي الحق أن المصريين لم يخطئوا في إطلاق اسم قاضي الشريعة على الإمام الشافعي، فما كاد يطأ أرض مصر حتى بحث عن قبر الإمام الليث بن سعد فوقف عليه مستعبرا .. ثم بحث عن آراء الليث وفقهه. فوجد المتعصبين من أعداء الليث وحساده، قد أخفوا كل كتبه تحت التراب أو أحرقوها..! وظل يبحث عن كتاب "مسائل الفقه" الذي كتبه الليث بيده، وكتاب التاريخ. وكتابه في التفسير والحديث، وكتبه عن منابع النيل. وتاريخ مصر قبل الإسلام، بما حوت من أساطير وروايات تصور تاريخ الفكر المصري ومقومات شخصية أهل مصر .. فلم يعثر الشافعي على شيء من ذلك كله إلا بعض مسائل وآراء واجتهادات حفظها بعض تلاميذ الإمام الليث، وكان الشافعي قد لقي أحدهم في المدينة، وأحدهم في اليمن فتلقى عنهما بعض فقه الليث ..
وأدرك المصريون أن هذا الإمام الجديد، سيحيى على إمامهم الراحل الليث ابن سعد الذي كادت أثاره أن تندثر ولما يمض على رحيله غير ثلاثة أو أربعة أعوام!! وكان أكثر ما أعجب المصريون من إمامهم الليث حرصه على الشريعة، بحيث يتحرى في كل فتوى أن يقيس على نص قرآني، أو على سنة ثابتة، أو إجماع صحيح إن لم يجد ما يطلب في النصوص أو الإجماع، بحيث يسد الطريق على من يستنبطون الحكم بما يستحسنون أو بما يرونه محققا للمصلحة .. ويشرعون بهذا السلوك في الفتيا للولاة أو القضاة الظالمين أن يحكموا بالهوى..!!
هاهو ذا إذن إمام جديد يريد أن يحيي آثار الليث، وأن يلزم أصول الشريعة فيما يستنبط من أحكام، وهو يضيف إلى فقه الليث اجتهاده الخاص، ويجادل عن الشريعة ويعلن للناس منذ اتخذ مجلسه للفتيا في جامع عمرو بالفسطاط أن القرآن فيه حكم كل شيء، وأن السنة تفصيل وبيان لما في القرآن بكل أوجه البيان، فعلى من أراد أن يجتهد أن يكون عليما بالقرآن والسنة، وقضايا الصحابة وإجماعهم، فقيها باللغة العربية، وبأسرار البلاغة فيها، وبقواعد نحوها. ولن يبلغ هذا العلم حتى يكون قد حفظ الشعر الذي قاله العرب قبل الإسلام، وبالعربية التي كان يتحدث بها البدو وقت نزول القرآن.
فقد اعترف ابن عباس وهو عليم بالتفسير أنه لم يفهم قول الله تعالى: "فاطر السماوات والأرض" حتى سمع بدوية تقول عن وليدها: "أنا فطرته"، تعني أنشأته وأوجدته .. فعلم أن كلمة فاطر بمعنى: منشئ أي خالق. فإذا اجتمع لرجل علم ذلك كله من قرآن وسنة وأقوال الصحابة، وفقه اللغة العربية حق له أن يجتهد!
والاجتهاد هو بذل الجهد، ففيه مشقة .. فإذا اجتهد العالم ليجد حكما أو ليصدر فتوى فليبحث أول الأمر في الكتاب والسنة، لأن الكتاب ـ وما السنة إلا بيان له ـ فيه كل الأوامر والنواهي، وما كان ربك ليترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي .. فإن اجتهد العالم فهو عالم وفقيه .. فإن لم يجد الفقيه في الكتاب والسنة أو إجماع الصحابة حكما ينطبق على الأمر الذي يعرض له فعليه بالقياس .. ولا قياس مع النص ولا سبيل غير القياس إلى الأحكام التي تواجه الأمور المستحدثة التي لا نص على حكمها ..
بهذا النظر جاء الإمام الشافعي إلى مصر ..
على أن الحياة في مصر طالعته بفقه جديد مما أثر عن الليث بن سعد .. واجهته بكثير من الأمور المستحدثة التي لم تواجه مثلها من قبل .. وكان الشافعي حين قدم إلى مصر وأقام بها حتى توفى فيها سنة 204 هـ، كان عالما ويحفظ القرآن والحديث ويعرف إجماع الصحابة ويتقن اللغة العربية وعلومها وآدابها .. كان كل أولئك، وكان بعد رجلا عرك الحياة وبلاها، وتجول في كثير من البلاد، واجتهد وأصبح صاحب مذهب، ونشأت له من خلال هذه التجارب كلها مودات وعداوات .. كثير الأسفار ينتقل هنا وهناك ليتعلم هو ويعلم الآخرين ..
عرف الحياة منذ ولد جهادا متصلا في سبيل العيش وفي سبيل العلم .. ومن الحق أنه قدم مصر وله مذهب في الفقه ولكنه لم يكد يقيم في مصر حتى غير كثيرا من آرائه، وأعاد كتابة كتبه. فقد عرف في مصر ما لم يكن قد عرفه من قبل .. صحت عنده أحاديث كثيرة سمعها لأول مرة في مصر، نقلا عن الإمام الليث. وبهره ما استطاع أن يصل إليه وإن يتعلمه من فقه الليث وآرائه وفتاواه وعرف آراء جديدة للإمام علي بن أبي طالب لم يتح له الإطلاع عليها من قبل ..
ثم أنه عرف حضارة وتقاليد وأعرافا كلها جديدة عليه، ليس كمثلها شيء مما رأى في مكة أو المدينة أو اليمن أو سوريا أو العراق .. عاين انطلاقا في الفكر مع التمسك بروح الشريعة، وتحررا في الرأي مع التزام مقاصد الشارع، ورأى أن مالك بن أنس يخالفه بعض الفقهاء في مصر متأثرين بإمامهم الليث بن سعد، وما كان يعرف أن الإمام مالك بن أنس يخالفه أحد من قبل إلا في ست عشرة مسألة، خالفه فيها أهل الرأي بالعراق ..
وناظر بعض تلاميذ الليث في خلاف إمامهم مع أستاذه مالك وأقنعه رأي الليث، وهاله ما رأى وسمع من تعصب بعض اتباع مالك في مصر وما يليها من المغرب العربي كله والأندلس للإمام مالك، حتى لقد كان الناس في المغرب والأندلس يتبركون بملابس للإمام مالك أخذها منه أحد تلاميذه، فكانوا إذا دهمهم الجفاف وتأخر المطر، وصلوا صلاة الاستسقاء اتجهوا إلى قلنسوة للإمام مالك يستسقون بها..!
ورأى الشافعي في مصر اتباع الإمام الليث يسخرون بهذا كله، ويتهمون صانعيه بإحياء الوثنية، وبالشرك بالله تعالى .. وسمع سخرية اتباع الإمام الليث من اتباع الإمام مالك حين يتناظرون .. إذ يروي اتباع الإمام الليث الحديث الشريف عن سنده إلى أن يقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد اتباع الإمام مالك "قال أستاذنا وشيخنا الإمام مالك" .. فيقول اتباع الليث: "نقول لكم قال الرسول عليه الصلاة والسلام فتقولون بإزائه قال الإمام مالك؟ أجعلتموه في مقام الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ .. لو كان الإمام مالك رضي الله عنه حيا لأفتى بأنكم ارتددتم عن الإسلام".
كان المصريون يجلون الإمام مالك بن أنس، على الرغم من أنهم يأخذون بآراء إمامهم الليث بن سعد في خلافه مع الإمام مالك .. ولكنهم كانوا يضيقون بتعصب بعض اتباعه، ويعتبرون تعصبهم وشططهم خروجا على منهج الإمام مالك، وإساءة لذكراه، وهو الذي عاش يحمل في كل سيرته تقاليد السماحة الإسلامية وتراث الحكمة والموعظة الحسنة